الثلاثاء، 28 أكتوبر 2025

10:41 م

tru

الذكاء الاصطناعي يدخل عالم الأدب.. هل يولد نجيب محفوظ من جديد؟

نجيب محفوظ

نجيب محفوظ

ياسين عبد العزيز

A A

في عالمٍ تتسارع فيه ثورات التقنية، لم يعد الإبداع الأدبي حكرًا على الإنسان، إذ بدأت الخوارزميات تتسلل إلى فضاء الرواية والشعر والنقد، لتعيد طرح سؤال قديم بصيغة جديدة: هل يمكن للآلة أن تُبدع؟ تخيّل أن الذكاء الاصطناعي يتغذّى على مؤلفات نجيب محفوظ، من “الثلاثية” إلى “أولاد حارتنا”، ليُنتج نصوصًا تُشبهه في النغمة، وتتماهى مع حسّه الاجتماعي وعمقه الفلسفي. 

للوهلة الأولى يبدو الأمر إعجازًا رقميًا يعيد بعث محفوظ في ثوب معاصر، لكن خلف هذا الانبهار تكمن تساؤلات فكرية وأخلاقية عميقة تمس معنى الإبداع ذاته.

محاكاة الأسلوب

كشفت دراسة حديثة أُجريت في جامعة ستوني بروك الأمريكية بالتعاون مع كلية القانون بجامعة كولومبيا، أن نماذج الذكاء الاصطناعي باتت قادرة على تقليد الأساليب الأدبية لكُتّاب عالميين بدقة لافتة، حتى لو استند تدريبها إلى مؤلفين اثنين فقط من أعمال الكاتب. 

وأظهرت الدراسة أن هذه النماذج – ومن بينها GPT-4o وClaude 3.5 Sonnet وGemini 1.5 Pro – استطاعت أن تكتب نصوصًا تُحاكي أساليب خمسين مؤلفًا من مختلف الاتجاهات، بينهم سلمان رشدي، وهاروكي موراكامي، وغابرييل غارسيا ماركيز، وأسماء أخرى نالت أرفع الجوائز الأدبية.

وطلب الباحثون من قراء وخبراء تقييم النصوص دون معرفة مصدرها، فكانت المفاجأة أن أغلب المشاركين فضّلوا النصوص التي كتبها الذكاء الاصطناعي على تلك التي كتبها بشر يحاولون تقليد الأسلوب نفسه، بل اعتبر بعض النقاد أن خوارزميات الكتابة أظهرت تماسكًا لغويًا وتناغمًا أسلوبيًا يتفوق على محاولات البشر. 

ووفق نتائج الدراسة، فإن النماذج بعد عملية “التخصيص الدقيق” Fine-tuning أصبحت تنتج نصوصًا أكثر إقناعًا من تلك الناتجة عن التوجيه النصي العادي، حتى أن أدوات كشف النصوص الآلية فشلت في التمييز بينهما بنسبة وصلت إلى 97%.

هذه النتائج تفتح بابًا واسعًا أمام إعادة تعريف حدود القدرة الأدبية، فحين تستطيع الخوارزمية – بعد تدريب محدود – أن تُقلد روح كاتب فذ، فإنها لا تكتفي بنسخ لغته، بل تُعيد تركيبها في سياق جديد يجعلها تبدو وكأنها إبداع أصيل.

أزمة الأصالة

غير أن هذا التفوق التقني يعيد إلى السطح أسئلة مقلقة حول الأصالة والملكية والنية، فالإبداع في جوهره كان يُنظر إليه بوصفه فعلًا إنسانيًا خالصًا، ينشأ من التجربة الذاتية والتأمل والوجدان. 

أما الذكاء الاصطناعي، فإنه يُنتج النصوص عبر تحليل الأنماط، واستقراء التكرارات اللغوية، دون أن يمر بمشاعر أو وعي أو تجربة، فهل يمكن وصف هذا الناتج بالإبداع؟ أم أنه مجرد محاكاة بارعة؟

ثم من يملك النص الجديد؟ هل هو الكاتب الأصلي الذي استُخدم أسلوبه كمصدر للتدريب؟ أم الشركة المطوّرة للنموذج؟ أم المستخدم الذي أدخل الأوامر ووجّه الخوارزمية؟ هذه الأسئلة القانونية والأخلاقية تُعيد تشكيل مفهوم “المؤلف” ذاته، وتفتح نقاشًا حول ضرورة صياغة تشريعات جديدة تحمي التراث الأدبي من الاستغلال غير المنضبط، دون أن تُكبّل حرية الابتكار التقني.

لقد باتت الأصالة الأدبية مهددة بإعادة تعريفها، إذ لم تعد تقوم على فرادة التجربة فقط، بل على التفاعل بين الإنسان والآلة، حيث يمتزج الوعي البشري بالحسابات الخوارزمية في عملية إبداعية هجينة.

محفوظ الرقمي

قد يتمكن الذكاء الاصطناعي من تقليد إيقاع نجيب محفوظ، وبناء جمله الطويلة المترابطة، واستحضار أجواء الحارة المصرية بما فيها من تناقضات، لكنه سيبقى عاجزًا عن الإحساس بما شعر به محفوظ وهو يسير بين أزقة القاهرة، أو يستمع إلى نبضها الشعبي الذي غذّى أدبه لسنوات، فالآلة لا تعرف الحنين، ولا تفهم العزلة، ولا تُدرك كيف تتولد الفكرة من ألمٍ أو ذكرى.

ومع ذلك، فإن قدرة الذكاء الاصطناعي على إعادة تشكيل أسلوب محفوظ لا يمكن النظر إليها كتهديد فحسب، بل كنافذة جديدة للإبداع، ربما لا يسعى هذا الجيل من النماذج إلى “إحياء محفوظ” بل إلى خلق محفوظ آخر، يتحدث بلغة زمننا الرقمي، ويعكس قضايا الإنسان المعاصر بنفس الحسّ الذي كان يميز أدب الواقعية القديمة، فالرواية التي قد يكتبها الذكاء الاصطناعي على نهج محفوظ ليست نسخة مكررة من ماضيه، بل امتداد له في زمن جديد.

في النهاية، يظل السؤال مفتوحًا: هل ما نقرأه من نصوص تكتبها الآلة هو استمرار لتراث الأدب، أم انعكاس رقمي له؟ ربما لا نجد إجابة حاسمة الآن، لكن المؤكد أن الذكاء الاصطناعي دخل عالم الأدب من أوسع أبوابه، وأن العلاقة بين الكاتب والخوارزمية لن تكون علاقة منافسة فقط، بل شراكة معقّدة تعيد تعريف جوهر الكتابة نفسها.

Short URL
استطلاع رأى

هل يتراجع عدد عملاء CIB خلال الفترة المقبلة بعد زيادة أسعار رسوم التحويل والخدمات؟

  • نعم

  • لا

  • غير مهتم

search

أكثر الكلمات انتشاراً